فصل: تفسير الآيات رقم (51- 53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ليريه‏}‏ أي‏:‏ يعلمه، وضمير الفاعل يعود على «الله» أو الغراب، و‏{‏كيف‏}‏‏:‏ حال من الضمير في ‏{‏يُواري‏}‏ والجملة مفعول ثان ليرى، أي‏:‏ ليعلمه الله، أو الغراب، كيفية مواراة أخيه، و‏{‏يا ويلتا‏}‏‏:‏ كلمة جزع وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم، كيا حسرتا ويا أسفا، و«أصبح» هنا بمعنى صار‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض‏}‏ أي‏:‏ يحفر فيها، ‏{‏ليريه‏}‏ أي‏:‏ الله، أو الغراب، ‏{‏كيف يُواري‏}‏ أي‏:‏ يستر ‏{‏سوءة أخيه‏}‏ أي‏:‏ جسده؛ لأنه مما يستقبح أن يرى، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، فعلَّم اللهُ قابيل كيف يصنع بأخيه؛ لأنه لم يدر ما يصنع به، إذ هو أول ميت مات من بني آدم، فتحير في أمره، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدُهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، ثم ألقاه في الحفرة وغطاه بالتراب‏.‏

قال قابيل لما رأى ذلك‏:‏ ‏{‏يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي‏}‏ فأهتَدِي إلى ما اهتدى إليه، فحفر لأخيه ودفنه ‏{‏فأصبح من النادمين‏}‏ على قتله، لِما كابد فيه من التحير في أمره، وحَملِه على رقبته سنة أو أكثر، وتلمذة الغراب له، واسوداد لونه، وتبرّي أبويه منه، إذ رُوِي أنه لما قتله أسود وجهه، فسأله آدم عن أخيه، فقال‏:‏ ما كنتُ عليه وكيلاً‏.‏ فقال‏:‏ بل قتلته؛ فلذلك اسود جسدك، وتبرأ منه، ومكث بعد ذلك مائة سنة لم يضحك، وعدم الظفر بما فعله من أجله‏.‏ قاله البيضاوي، فانظره مع ما سيأتي عن الثعلبي‏.‏

واختلف في كفره؛ فقال ابن عطية‏:‏ الظاهر أنه لم يكن قابيل كافرًا، وإنما كان مؤمنًا عاصيًا، ولو كافرًا ما تخرج أخوه من قتله، إذ لا يتحرج من قتل كافر؛ لأن المؤمن يأبى أن يقتل موحدًا، ويرضى بأن يُظلَمَ ليجازي في الآخرة‏.‏ ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه لما قصد أهل مصر قتله مع عبد الرحمن بن أبي بكر، لشُبهةٍ، وكانوا أربعة آلاف، فأراد أهل المدينة أن يدفعوا عنه، فأبى واستسلم لأمر الله‏.‏ قال عياض‏:‏ منعه من الدفع إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سَبَقَ به القدر‏.‏ حيث بشره بالجنة على بلوى تصيبه، كما في البخاري، ونقل عن بعض أهل التاريخ‏:‏ أن شيتًا سار إلى أخيه قابيل، فقاتله بوصية أبيه له بذلك، متقلدًا بسيف أبيه‏.‏ وهو أول من تقلد بالسيف، فأخذه أخاه أسيرًا وسلسله، ولم يزل كذلك حتى قبض كافرًا‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ولعل تحرّج أخيه من قتله؛ لأنه حين قصد قتله لم يُظهِر كفره، وظهر بعد ذلك، فلذلك قاتله أخوه شيت بعد ذلك وأسره، وذكر الثعلبي‏:‏ أن قابيل لما طرده أبوه، أخذ بيد أخته أقليمًا، فهرب بها إلى أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له‏:‏ إنما أكلت النار قربان هابيل، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، وهو أول من عبد النار‏.‏

ه‏.‏ فهذا صريح في كفره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كان الحق جل جلاله يدل العصاة من عباده إذا تحيروا على ما يزيل حيرتهم، فكيف لا يدل الطائعين إذا تحيروا على ما يزيل شبهتهم، إذا فزعوا إليه والتجأوا إلى حماه‏؟‏‏!‏ فكل من وقع في حيرة دينية أو دنيوية وفزع إلى الله تعالى، مضطرًا إليه، فلا شك أن الله تعالى، مضطرًا إليه، فلا شك أن الله تعالى يجعل له فرجًا ومخرجًا من أمره، إما بواسطة أو بلا واسطة‏.‏ كن صادقًا تجد مرشدًا، ‏{‏فَلَوْ صَدَقُواْ اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏محَمَّد‏:‏ 21‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من أجل ذلك‏}‏‏:‏ يتعلق بكتبنا، فيوقف على ما قبله، وقيل‏:‏ بالنادمين، فيوقف على ‏{‏ذلك‏}‏، وهو ضعيف، قاله ابن جزي، وأصل ‏{‏أجْل‏}‏‏:‏ مصدر أجُل يأجل، كأخذ يأخذ، أجلاً، أي‏:‏ جنا جناية، استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تعليل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏من أجل ذلك‏}‏ القتل الذي صدر من قابيل لأخيه هابيل، وما نشأ عنه من التجرؤ على الدماء والمفاسد، حيث سَنَّه أولاً ولم يكن يعرفه أحد، فاقتدى به من بعده، ‏{‏كتبنا على بني إسرائيل‏}‏ في التوراة الذي حكمه متصل بشريعتكم، ‏{‏أنه من قتل نفسًا بغير نفس‏}‏ أي‏:‏ في غير قصاص، وبغير فساد في الأرض، كقطع الطريق والكفر، ‏{‏فكأنما قتل الناس جميعًا‏}‏ من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه‏.‏

وفي البخاري عن ابن مسعود قال‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تُقتَلُ نَفسٌ مسلمةٌ بغير حق إلاَّ كَانَ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ من دَمِها، لأنَّهُ أوَّلُ من سَنَّ القَتل» أو من حيث إن قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم، أو يكون الناس خصماءه يوم القيامة؛ لأن هتك حرمة البعض كالكل‏؟‏

‏{‏ومن أحياها‏}‏ أي‏:‏ تسبب في حياتها بعفو أو منع من القتل، أو استقباء من بعض أسباب الهلكة؛ كإنقاذ الغريق والحريق وشبه ذلك، ‏{‏فكأنما أحيا الناس جميعًا‏}‏؛ أُعطِي من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا، وفي البخاري‏:‏ «من أحياها أي مَن حَرَّمَ قتلَها إلا بحق حيى الناس منه جميعًا» قال ابن جزي‏:‏ والقصد بالآية تعظيم قتل النفس والتشديد فيه، ليزدجر الناس عنه وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه‏.‏ ه‏.‏ فما كتبه الله على بني إسرائيل هو أيضًا شرع لنا‏.‏ قال أبو سعيد‏:‏ ‏(‏والذي لا إله إلا هو دم بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا‏)‏‏.‏

وإنما خصّهم بالذكر؛ لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغلظ عليهم بسبب طغيانهم، ولتلوح مذمتهم‏.‏ انظر ابن عطية‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن سَقَى مؤمنًا شربَة ماء والماءُ موجودٌ، فكأنما أعتقَ سبعين رقبة، ومَن سقَى في غيرِ مَوطِنِه فكأنَّما أحيا الناس جميعًا»‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من صدَّ نفسًا عن إحياء قلبها وعوّقها عن من يعرفها بربها فكأنما قتلها، ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأن المؤمنين كلهم كالجسد الواحد، كما في الحديث، ومن أحياها بأن أنقذها من الغفلة إلى اليقظة، ومن الجهل إلى المعرفة، فكأنما أحيا الناس جميعًا؛ لأن الأرواح جنس واحد، فإحياء البعض كإحياء الكل‏.‏

وبهذا يظهر شرف مقدار العارفين، الدالين على الله، والدعاة إلى معرفة الله، الذين أحيا الله بهم البلاد والعباد، وفي بعض الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «والذي نفسُ محمدٍ بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم‏:‏ إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون اللهُ إلى عبادهِ، ويحببون عبادَ اللهِ إلى اللهِ، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة»‏.‏

وهذه حالة شيوخ التربية‏:‏ يحببون الله إلى عباده؛ لأنهم يطهرون القلب من دنس الغفلة حتى ينكشف لها جمال الحق فتحبه وتعشقه، ويذكرون لهم إحسانه تعالى وآلاءه فيحبونه، فإذا أحبوه أطاعوه فيحبهم الله ويقربهم، والله تعالى أعلم‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه أن النية إذا وقعت من قبل النفس الأمارة في شيء، وباشرته، فكأنما باشرت جميع عصيان الله تعالى؛ لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت، لأنها أمارة بالسوء، ومن السوء خلقت، فالجزاء يتعلق بالنية‏.‏ وكذلك إذا وقعت النيبة من قبل القلب الروحاني في خير، وباشره، فكأنه باشر جميع الخيرات؛ لأنه لو قدر لفعل‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم «نيةُ المؤمن أبلغُ مَن عَمله»‏.‏

وفيه إشارة أخرى أن الله سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة، بعضها من بعض وصرُفها مختلفة، وتعلقت بضعها من بعض من جهة الاستعداد والخلقة‏.‏ فمن قتل واحدًا منها أثرَّ قتلها في جميع النفوس عالمة بذلك أو جاهلة، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر الله وتوحيده، ووصف جلاله وجماله، حتى تحب خالقها، وتحيا بمعرفته، وجمال مشاهدته، فأثِرِ حياتها وتزكيتها في جميع النفوس، فكأنما أحيا جميع النفوس‏.‏ وفيه تهديد لأئمة الضلالة، وعز وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقوله في النفس الأمارة‏:‏ ‏(‏من السوء خلقت‏)‏، فيه نظر؛ فإن النفس هي الروح عند المحققين، فما دامت الطينية غالبة عليها، وهي مائلة إلى الحظوظ والهوى، سميت نفسًا، فإن كانت منهمكة سميت أمارة، وإن خف عثارها، وغلب عليها الخوف، سميت لوامة، فإذا انكشف عنها الحجاب، وعرَفت ربها، واستراحت من تعب المجاهدة، سميت روحًا، وإن تطهرت من غبش الحس بالكلية سميت سرًا، وأصلها من حيث هي نور رباني وسر لاهوتي‏.‏ ولذلك قال تعالى فيها‏:‏ ‏{‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِي‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 85‏]‏، فالسوء عارض لها، لا ذاتي، فما خلقت إلا من نور القدس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم عاتب بني إسرائيل على سفك الدماء والإفساد في الأرض، بعد ما حرم ذلك عليهم في التوراة، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءتهم‏}‏ أي‏:‏ بني إسرائيل، ‏{‏رُسلنا بالبينات‏}‏ أي‏:‏ بالمعجزات الواضحات، ‏{‏ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون‏}‏ بسفك الدماء وكثرة المعاصي‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ أي‏:‏ بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل إتيان تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر وتجديدًا للعهد، كي يتحاموا عنها، كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها، والإسراف‏:‏ التباعد عن حد الاعتدال في الأمر‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد قيض الله لهذه الأمة المحمدية من يقوم بأمر دينها، ظاهرفا وباطنًا، وهم ورثته في الظاهر والباطن، وفي الخبر‏:‏ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، فلكل زمان رجال يقومون بالشريعة الظاهرة وهم العلماء، ورجال يقومون بالحقيقة الباطنة، وهم الأولياء، فمن قصر في الجهتين قامت عليه الحجة، ولله الحجة البالغة، فمن أسرف أو طغى أدبته الشريعة وأبعدته الحقيقة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ سبب نزل الآية عند ابن عباس‏:‏ قوم من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل‏.‏ وهو مناسب لما قبله، وقال جماعة‏:‏ نزلت في نفر من عُكل وعُرينَة، أظهروا الإسلام بالمدينة، ثم خرجوا وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا إبله، فبعث في إثرهم، فأُخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، فماتوا، ثم حُكمُها جارِ في كل محارب، والمحاربة عند مالك‏:‏ هي حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج عنه، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يكون المحارب إلا خارج البلد، ‏{‏فسادًا‏}‏‏:‏ منصوب على العلة، أو المصدر، أو على حذف الجار‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله‏}‏ حيث حاربوا عباده، فهو تغليظ ومُبالغة، ‏{‏و‏}‏ يحاربون ‏{‏رسوله‏}‏ كما فعل العُرَينيون أو غيرهم، ‏{‏ويسعون في الأرض فسادًا‏}‏ بالفساد كإخافة الناس، ونَهب أموالهم‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ هو بيان للحرابة، وهي درجات؛ فأدناها‏:‏ إخافة الطريق، ثم أخذ الأموال، ثم قتل النفس‏.‏

فجزاؤهم ‏{‏أن يُقتلوا أو يُصلبوا‏}‏، فالصلب مضاف للقتل، فقيل‏:‏ يقتل ثم يصلب، إرهابًا لغيره، وهو قول أشهب، وقيل‏:‏ يصلب حيًا ويُقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم، ‏{‏أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف‏}‏، فيقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقطع اليد من الرسغ، الرجل من المفصل كالسرقة، ‏{‏أو يُنفوا من الأرض‏}‏ أي‏:‏ ينفوا من بلد إلى بلد، ويسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يسجن في البلد بعينه‏.‏ ومذهب مالك‏:‏ أن الإمام مخير في المحارب بين ما تقدم، إلا أنه قال‏:‏ إن كان قتل فلا بد من قتله، وإن يقتل فالأحسن أن يؤخذ فيه بأيسر العقاب‏.‏

أولئك المحاربون ‏{‏لهم خزي في الدنيا‏}‏‏:‏ ذل وفضيحة، ‏{‏ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ لعظم ذنوبهم‏.‏ ظاهره أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحاربين بخلاف سائر الحدود‏.‏ ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب، وفي الآخرة لمن لم يعاقب، ‏{‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏}‏ بأن جاؤوا تائبين ‏{‏فاعلموا أن الله غفور رحيم‏}‏، فيسقط عنهم حكم الحرابة، واخُتلف‏:‏ هل يطالب بما عليه من حقوق الناس كالدماء أم لا‏؟‏ فقال الشافعي‏:‏ يسقط عنه بالتوبة حد الحرابة، ولا يسقط حقوق بني آدم، وقال مالك‏:‏ يسقط عنه جميع ذلك، إلا أن يُوجد معه مال رجل بعينه، فَيُرَدَّ إلى صاحبه، أو يطلبه ولي دم بدم تقوم البينة فيه، فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي لم يطالب بها، فلا يتبعه الإمام بشيء منها‏.‏

وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة، يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد، وإن أسقطت العذاب، والآية في قُطَّاع المسلمين؛ لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها‏.‏

ه‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ فرق كبير بين من يرجع إلى الله بملاطفة الإحسان، وبين من يقاد إليه بسلاسل الامتحان، هؤلاء المحاربون لم يرجعوا إلى الله حتى أُخذوا وقُتلوا وصُلبوا أو قطعت أيديهم وأرجلهم‏.‏ وإن رجعوا إليه اختيارًا قبلهم، وتاب عليهم ورحمهم وتعطف عليهم، وكذلك العباد‏:‏ من رجع إلى الله قبل هجوم منيته قَبِله وتاب عليه، وإن جد في الطاعة قرَّبه وأدناه، وإن تقدمت له جنايات، وقد خرج من اللصوص كثير من الخصوص، كالفضيل، وابن أدهم، وغيرهما، ممن لا يحصى، سبقت لهم العناية فلم تضرهم الجناية‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله‏}‏، ولا تسلكوا سبيل بني إسرائسيل الذين جاءتهم الرسل، فعصوا وأفسدوا ‏{‏وابتغوا إليه الوسيلة‏}‏ أي‏:‏ اطلبوا ما تتوسلون به إلى رضوانه، والقرب من جناب قدسه من الطاعات، وترك المخالفات، ‏{‏وجاهدوا في سبيله‏}‏ بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ بالوصول إلى الله والفوز بكرامته‏.‏

الإشارة‏:‏ لا وسيلة أقرب من صحبة العارفين، والجلوس بين أيديهم وخدمتهم، والتزام طاعتهم، فمن رام وسيلة توصله إلى الحضرة غير هذه فهو جاهل بعلم الطريق‏.‏ قال أبو عمرو الزجّاجي رضي الله عنه‏:‏ لو أن رجلاً كشف له عن الغيب، ولا يكون له استاذ لا يجيء منه شيء‏.‏

وقال إبراهيم بن شيبان رضي الله عنه‏:‏ لو أن رجلاً جمع العلوم كلها، وصحب طوائف الناس، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة، من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح، ومن لا يأخذ أدبه من آمر له وناهٍ يريه عيوبَ أعماله ورُعونات نفسه، لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات‏.‏ ه‏.‏

وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه‏:‏ كل من لا يكون له في هذا الطريق شيخ لا يفرح به‏.‏ ه‏.‏ ولو كان وافر العقل منقاد النفس، واقتصر على ما يلقى إليه شيخ التعليم فقط، فلا يكمل كمال من تقيد بالشيخ المربي؛ لأن النفس أبدًا كثيفة الحجاب عظيمة الإشراك، فلا بد من بقاء شيء من الرعونات فيها، ولا يزول عنها ذلك، بالكلية، إلا بالانقياد للغير والدخول تحت الحكم والقهر، وكذلك لو كان سبقت إليه من الله عناية وأخذه الحق إليه، وجذبه إلى حضرته، لا يؤهل للمشيخة، ولو بلغ ما بلغ، والحاصل‏:‏ أن الوسيلة العظمى، والفتح الكبير، إنما هو في التحكيم للشيخ، لأن الخضوع لمن هو من جنسك تأنفه النفس، ولا تخضع له إلا النفس المطمئنة، التي سبقت لها من الله العناية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏36‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لو أن لهم‏}‏‏:‏ الجار متعلق بالاستقرار، لأنه خير «إن» مقدمًا، والضمير في ‏{‏به‏}‏‏:‏ يعود على ما ومثله، ووحده باعتبار ما ذكر كقوله‏:‏ ‏{‏عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 68‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ حين يشاهدون العذاب يتمنون الفداء، فلو ‏{‏أن لهم ما في الأرض جميعًا‏}‏ من الأموال والعقار ‏{‏ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقبل منهم‏}‏ ولا ينفعهم ‏{‏ولهم عذاب مقيم‏}‏ لا خلاص لهم منه، وهذا كما ترى في الكفار، وأما عصاة المؤمنين فيخرجون منها بشفاعة نبيهم عليه الصلاة والسلام ولا حجة للمعتزلة في الآية، خلافًا لجهالة الزمخشري‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من مات تحت قهر الحجاب، ونكّبته المشيئة عن دخول الحضرة مع الأحباب، حصل له الندم يوم القيامة، فلو رام أن يفتدى منه بملء الأرض ذهبًا ما تقبل منه، بل يبقى مقيمًا في غم الحجاب، معزولاً عن رؤية الأحباب، يتسلى عنهم بالحور والولدان، وتفوته نظرة الشهود والعيان في كل حين وأوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏38‏)‏ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏39‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏السارق‏}‏‏:‏ مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه، وهو الجار والمجرور، أي‏:‏ مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، وقال المبرد‏:‏ الخبر هو جملة‏:‏ ‏{‏فاقطعوا‏}‏، ودخلت الفاء لمعنى الشرط؛ لأن الموصول وهو «أل» فيه معنى الشرط، ومثله‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَأجْلِدُواْ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 2‏]‏، قلت‏:‏ وهو أظهر، فإن قلت‏:‏ ما الحكمة في تقديم المُذكر في هذه الآية، وفي أية الزنا قدم المؤنث، فقال‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَهُ وَالزَّانِى‏}‏ ‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن السرقة في الرجال أكثر، والزنى في النساء أكثر، فقدّم الأكثر وقوعًا‏.‏ وقدّم العذاب هنا على المغفرة، لأنه قابل بذلك تقدم السرقة على التوبة، أو لأن المراد به القطع، وهو مقدم في الدنيا، ‏{‏جزاء‏}‏ و‏{‏نكالاً‏}‏‏:‏ علة أو مصدر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ أي‏:‏ أيمانهما من الرسغ، بشروط، منها‏:‏ ألاَّ يكون مضطرًا بالجوع، على قول مالك، فيقدم السرقة على الميتة، إن عُلِم تصديقه‏.‏ ومنها‏:‏ ألاَّ يكون السارق أبًا أو عبدًا سرق مال ولده أو سيده‏.‏ ومنها‏:‏ أن يكون سرق من حرز، وأن يكون نِصَابًا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساويهما عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وقال عثمان البَتى‏:‏ يُقطع في درهم فما فوق‏.‏ وفي السرقة أحكام مبسوطة في كتب الفقه‏.‏

وعلة القطع‏:‏ الزجر، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم‏}‏‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما الحكمة في قطعها في ربع دينار، مع أن دِيتَهَا أن قطعت، خمسمائة دينار‏؟‏ قلت‏:‏ ذل الخيانة أسقطت حرمتها بعد عز الصيانة‏.‏ فافهم حكمة الباري‏.‏

‏{‏فمن تاب من بعد ظلمه‏}‏ أي‏:‏ بعد سرقته، كقوله في سورة يوسف‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِي الَّظالِمِينَ‏}‏ ‏[‏يُوسُف‏:‏ 75‏]‏ أي‏:‏ السارقين، ‏{‏وأصلح‏}‏ بأن ردّ ما سرق، وتخلص من التبعات ما استطاع، وعزم ألا يعود ‏{‏فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم‏}‏، فيتقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع‏:‏ فهل يسقط، وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية، أو لا يسقط، وهو مذهب مالك، لأن الحدود لا تسقط عنده بالتوبة إلا عن المحارب‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ قاله ابن جزي، تبعًا لابن عطية، وفيه نظر، فإن مشهور مذهب الشافعي موافق لمالك، ولعله تصحف عده الشافعي بالشعبي، كما نقل الثعلبي عنه‏.‏ والله أعلم‏.‏

‏{‏ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض‏}‏ يتصرف فيهما كيف شاء، فالخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد، ‏{‏يُعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء‏}‏ قال السدي‏:‏ يُعذب من مات على كفره، ويغفر لمن تاب من كفره‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏يُعذب من يشاء‏}‏ على الصغيرة إذا أقام عليها ‏{‏ويغفر لمن يشاء‏}‏ على الكبيرة إذا نزع منها، ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ لا يعجزه شيء‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أمره الحق جل جلاله بقطع سارق الأموال، أمر بقطع سارق القلوب، وهو الشيطان، وجنوده؛ الخواطر الردية؛ فإن القلب بيت كنز السر أي‏:‏ سر الربوبية لأن القلب بيت الرب، والبصيرة حارسة له، فإذا طرقه الشيطان بجنوده، فإن وجد البصيرة متيقظة دفعته وأحرقته بأنوار ذكرها، وأن وجدها نائمة؛ فإن كان نومها خفيفًا اختلس منها وفطنت له، وإن كان نومها ثقيلاً؛ بتراكم الغفلات، خرب البيت ولم تفطن له، فيسكن فيه بجنوده الخواطر وهي نائمة‏.‏ فالواجب على الإنسان حفظ قلبه، قبل أن يسكنه الشيطان، فيصعب دفعه، وحفظه بدوام ذكر الله القلبي، فإن لم يستطع فبدوام اللسان، فإن لم يستطع فبالنية الصالحة‏.‏ وربنا المستعان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ الباء في‏:‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏ متعلقة بقالوا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك‏}‏ صنع المنافقين، ‏{‏الذين يسارعون في الكفر‏}‏ أي‏:‏ يقعون فيه سريعًا، فيظهرونه إن وجدوا فرصة، ثم بينهم بقوله‏:‏ ‏{‏من الذين قالوا آمنا‏}‏ قالوه ‏{‏بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم‏}‏، فلا يهولنّك شأنهم ولا تحتفل بكيدهم، فإن الله سيكفيك أمرهم‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن العارفين بالله تذكير عباد الله، ثم ينظرون إلى ما يفعل الله، فلا يحزنون على من لم تنفعه الموعظة، ولا يفرحون بسبب نجاح موعظتهم، إلا من حيث موافقة رضا ربهم، فهم في ذلك على قدم نبيهم، آخذين بوصية ربهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم رجع إلى عتاب اليهود، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمِنَ الذين هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ومن الذين هادوا‏}‏‏:‏ يُحتمل أن يكون عطفًا على ‏{‏الذين قالوا‏}‏ أي‏:‏ لا يحزنك شأن المنافقين واليهود، و‏{‏سماعون‏}‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ هم سماعون، ويحتمل أن يكون استئنافاً، فيكون ‏{‏سماعون‏}‏‏:‏ مبتدأ على حذف الموصوف، و‏{‏من‏}‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ ومن الذين هادوا قوم سماعون، واللام في‏:‏ ‏{‏للكذب‏}‏‏:‏ إما مزيدة للتأكيد، أو لتضمين السماع معنى القبول، وجملة ‏{‏لم يأتوك‏}‏‏:‏ صفة لقوم، وجملة ‏{‏يحرّفون‏}‏‏:‏ صفة أخرى له‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن الذين هادوا‏}‏ صنف ‏{‏سماعون للكذب‏}‏ أي‏:‏ كثيروا السماع للكذب والقبول له، وهم يهود بني قريظة، ‏{‏سماعون لقوم آخرين‏}‏ وهم يهود خيبر، ‏{‏لم يأتوك‏}‏ أي‏:‏ لم يحضروا مجلسك، تكبرًا وبغضًا، ‏{‏يُحرفون الكلم من بعد مواضعه‏}‏ أي‏:‏ يميلونه عن مواضعه الذي وضعه الله فيها، إما لفظًا أو تأويلاً‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏‏:‏ أي‏:‏ الذين لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يهود خيبر‏:‏ ‏{‏إن أُوتيتم هذا فخذوه‏}‏ أي‏:‏ إن أوتيتم هذا المحرّف وأفتاكم محمد بما يوافقه فخذوه، ‏{‏وإن لم تُؤتوه‏}‏ بأن أفتاكم بغيره ‏{‏فاحذروا‏}‏ أن تقبلوا منه‏.‏

وسبب نزولها‏:‏ أن شريفًا مِن يهود خَيْبَرَ زنى بِشريفة منهم، وكانا مُحصنَين، وكرهوا رجمهما، فأرسلوا مع رَهطِ منهم إلى بَني قريظة ليسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم‏:‏ إن أمَرَكُم بالجَلّد والتَّحمِيم فَاقبلُوا، وإن أمَرَكُم بالرَّجم فاحذروا أن تقبلوه منه، فأتوا رسولَ الله صلى عليه وسلم بالزَّانِيين، ومعَهما ابن صوريا، فاستفتوه صلى الله عليه وسلم، فقال لابن صوريا‏:‏ أنشُدكَ اللهَ الذي لا إله إلا هُو، الذِي فَلَق البَحرَ لمُوسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكُم وأغْرَقَ آلَ فِرعَونَ، والذِي أنزل علَيكُم كِتَابه، وأحلَّ حَلاله وحرَّم حَرَامه، هل تجد فيهم الرَّجمَ على من أحصن‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، فوثبوا عليه، فقال‏:‏ خِفتُ إن كَذبتَه أن ينزل علينا العذاب، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالزَّانِيين فرُجِمَا عندَ باب المسجد، وفي رواية‏:‏ دعاهم إلى التوراة فأتوا بها، فوضع ابن صوريا يده على آية الرجم، وقرأ ما حولها، فقال له عبدالله بن سلام‏:‏ ارفع يدك، فإذا آية الرجم تلوح، فرجما‏.‏

وفي القصة اضطراب كثير‏.‏ ولعل القضية تعددت‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يُرِد الله فتنته‏}‏ أي‏:‏ ضلالته أو فضيحته، ‏{‏فلن تملك له من الله شيئًا‏}‏ أي‏:‏ تقدر على دفعها عنه، ‏{‏أولئك الذين لم يُرد الله أن يُطهر قلوبهم‏}‏ من الكفر والشرك، ‏{‏لَهُم في الدُّنيَا خزيٌ‏}‏ أي‏:‏ هوان وذل؛ بضرب الجزية والخوف من المؤمنين، ‏{‏ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ وهو الخلود في النيران‏.‏

هم ‏{‏سماعون للكذب‏}‏، كرر للتأكيد، وليرتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏أكَّالون للسحت‏}‏ أي‏:‏ الحرام، كالرشا وغيرها، وسُمي سحتًا؛ لأنه يسحت البركة ويستأصل المال، كما قال صلى الله عليه وسلم «من جمع المال من نهاوش أذهبه الله في نهابر»‏.‏

ثم خيَّر نبيه عليه الصلاة والسلام في الحكم بينهم، فقال‏:‏ ‏{‏فإن جاؤوك‏}‏ متحاكمين إليك ‏{‏فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏، وقيل‏:‏ نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 49‏]‏‏.‏ والجمهور‏:‏ أن ما كان من باب التظالم والتعدي فإن الحاكم يتعرض بهم ويبحث عنه، وأما النوازل التي لا ظلم فيها، وإنما هي دعاوي، فإن رضوا بحكمنا فالإمام مُخير، وإن لم يرضوا فلا نتعرض لهم، انظر ابن عطية، وقال البيضاوي‏:‏ ولو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، وهو قول الشافعي‏:‏ والأصح‏:‏ وجوبه؛ إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًا، لأنا التزمنا الذب عنهم، ومذهب أبي حنيفة‏:‏ يجب مطلقًا‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئًا‏}‏؛ لأن الله عصمك من الناس، ‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ أي‏:‏ العدل الذي أمر الله به ‏{‏إن الله يحب المقسطين‏}‏، فيحفظهم ويعظم شأنهم‏.‏

‏{‏وكيف يُحكمونك‏}‏ وهم لا يؤمنون بك، ‏{‏وعندهم التوارة فيها حكم الله‏}‏ أي‏:‏ والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم ‏{‏ثم يتولون من بعد ذاك‏}‏، أو ثم يتولون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد التحكيم، وفيه تنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما قصدوا به ما يكون عونًا لهم على هواهم، وإن لم يكن حكم الله في زعمهم، ‏{‏وما أولئك بالمؤمنون‏}‏ بكتابهم ولا بكتابك؛ لإعراضهم عنه أولاً، وعنك ثانيًا، بل أولئك هم الفاسقون التابعون لأهوائهم‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من تعرض للشيخوخة وادعى مقام التربية، وهو يأمر أصحابه باتباع رخص الشريعة، والبقاء مع العوائد، ويقول لهم‏:‏ ‏{‏إن أوتيتم هذا فخذوه‏}‏ ويزعم أنه سنة، وإن لم تؤتوه، ولقيتم من يأمركم بقتل النفوس، وحط الرؤوس ودفع الفلوس، وخرق العوائد فاحذروه، فمن كان حاله هذا، فالآية تجر ذيلها عليه، لأنه تعرض لفتنة نفسه بحب الجاه وغرور أولاد الناس، ‏{‏ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم‏}‏ من الهوى، ولا بصيرتهم من شهود السِّوى؛ لأن تطهير القلوب مشروط بقتل النفوس، وقتل النفوس إنما يكون باتباع ما يثقل عليها من خرق عوائدها، كالذل والفقر وغير ذلك من الأعمال الشاقة عليها، ومن لم يطهر قلبه من الهوى يعش في الدنيا في ذل الحجاب مسجوناً بمحيطانه، محصورًا في هيكل ذاته، وله في الآخرة أشد العتاب، حيث تعرض لمقام الرجال وهو عنه بمعزل، ويقال لمن تبعه في اتباع الرخص‏:‏ ‏{‏سماعون للكذب أكالون للسحت‏}‏‏.‏

قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه‏:‏ من كان من فقراء الزمان يسمع الغناء، ويأكل أموال الظلمة، ففيه نزعة يهودية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏سماعون للكذب أكالون للسحت‏}‏‏.‏ ه‏.‏

فإن جاؤوك أيها العارف، يستخبرونك، ويخاصمونك في الأمر بخرق العوائد، ويزعمون أنهم موافقون للسنة، ‏{‏فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏، وهو الأخذ بكل ما يقتل النفوس، ويجهز عليها، ‏{‏إن الله يحب المقسطين‏}‏ وكيف يحكمونك أو يخاصمونك، وعندهم القرآن فيه حكم الله بذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العَنكبوت‏:‏ 69‏]‏، ولا يكون جهاد النفس إلا بمخالفتها، وقتلها بترك حظوظها وهواها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏للذين هادوا‏}‏‏:‏ متعلق بيحكم، أو بأنزلنا، أو بهدى ونور، و‏{‏الربانيون‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏النبيون‏}‏، وهم العباد والزهاد منهم، والأحبار‏:‏ علماؤهم، جمع حبر بكسر الحاء وفتحها، وهو أشهر استعمالاً؛ للفرق بينه وبين المداد، و‏{‏بما استحفظوا‏}‏‏:‏ سببية متعلق بيحكم، أو بدل من ‏{‏بها‏}‏ والعائد إلى «ما» محذوف، أي‏:‏ استحفظوه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى‏}‏ أي‏:‏ ما يهدي إلى إصلاح الظواهر من النواهي والأوامر، و‏{‏نور‏}‏ تستنير به السرائر، وتشرق به القلوب والضمائر، من الاعتقادات الصحيحة والقعائد الراجحة، والعلوم الدينية والأسرار الربانية‏.‏ ‏{‏يحكم بها النبيون‏}‏ الذين أتوا بعد موسى عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهم ‏{‏الذين أسلموا‏}‏ إي‏:‏ انقادوا بكليتهم إلى ربهم، ولم تبق بقية لغير محبوبهم، وفيه تنويه بشأن الإسلام وأهله، وتعريض باليهود؛ فإنهم بمعزل عن دين الأنبياء واقتفاء هديهم، حيث لم يتصفوا به، يحكم بها ‏{‏للذين هادوا‏}‏ وعليهم، وهم اليهود، ‏{‏و‏}‏ يحكم بها أيضًا ‏{‏الربانيون والأحبار‏}‏ أي‏:‏ زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم، ‏{‏بما استُحفظوا من كتاب الله‏}‏ أي‏:‏ بسبب أمر الله تعالى لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتخريف‏.‏ ‏{‏وكانوا عليه شهداء‏}‏ أي‏:‏ رقباء، فلا يتركون من يُغيرها أو يحرفها، ولما طال العهد عليهم حرفوا وغيروا، بخلاف كتابنا، حيث تولى حفظه الحق ربنا، فلا يزال محفوظًا لفظًا ومعنى إلى قيام الساعة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الّذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فللَّه الحمد‏.‏

ثم خاطب الحكام، فقال‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏ أي‏:‏ فلا تداهنوا في حكوماتكم خشية ظالم أو مراقبة كبير، فكل كبير في جانب الحق صغير ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً‏}‏ أي‏:‏ لا تستبدلوا بالحكم بالحق ثمنًا قليلاً؛ كالرشوة والجاه، ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏}‏ مستهينًا به ومنكرًا له ‏{‏فأولئك هم الكافرون‏}‏؛ لاستهانتهم به‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت الثلاثة في اليهود، الكافرون والظالمون والفاسقون، وقد رُوِي في هذا أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالت جماعة‏:‏ هي عامة، فكل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية، وقال الشافعي‏:‏ الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى، وهو أنسب لسياق الكلام، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد وصف الله تعالى القرآن بأعظم مما وصف به التوراة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِنّ رَّبِكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 174‏]‏، فجعل التوراة ظرفًا للهداية والنور، وجعل القرآن نفس النور والهداية‏.‏ وربانيو هذه الأمة‏:‏ أولياؤها العارفون بالله، الذين يربون الناس ويرشدونهم إلى معرفة الشهود والعيان، وأحبارها‏:‏ علماؤها‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ الرباني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب، واستقام في شهود جلاله وجماله، صار متصفًا بصفات الله جل جلاله، حاملاً أنوار ذاته، فإذا فنى عن نفسه وبقي بربه، صار ربانيًا، مثل الحديد في النار، إذا لم يكن في النار كان مستعدًا لقبول النار، فإذا وصل إلى النار واحمر، صار ناريًّا، هكذا شأن العارف، فإذا كان منورًا بتجلي الرب، صار ربانيًا نورانيًّا ملكوتيًّا جبروتيًّا، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب، ثم قال‏:‏ العارف مخاطب من الله في جمع أنفاسه، وحركاته، ينزل على قلبه من الله وحي الإلهام، وربما يخاطبه بنفسه، ويكلمه بكلامه، ويحدثه بحديثه، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

«إنَّ في أُمَتي محدَثين أو مُكَلَّمين وإِنَّ عُمَرِ مِنهُم» ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من نصب الجميع‏:‏ فَعَطَفٌ على النفس، و‏{‏قصاص‏}‏‏:‏ خبر إن، ومن رفع العين‏:‏ فيحتمل أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء، و‏{‏قصاص‏}‏‏:‏ خبر، من عطف الجمل، أو يكون عطفًا على موضع النفس؛ لأن المعنى‏:‏ قلنا لهم‏:‏ النفس بالنفس، أو على الضمير المستكن في الخبر، ومن رفع الجروح فقط، ما تقدم في العين‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وكتبنا‏}‏ على بني إسرائيل، أي‏:‏ فرضنا وألزمنا عليهم في التوراة ‏{‏أن النفس‏}‏ تقتل بالنفس في القتل العمد إن كان المقتول مسلمًا حرًا، فلا يقتل مسلم بكافر إلا إن قتله غيلة، ولا حر بعبد، للحديث، ‏{‏والعينَ‏}‏ تُفقأ ‏{‏بالعين‏}‏، ‏{‏والأنفَ‏}‏ تُجدع ‏{‏بالأنفِ‏}‏، ‏{‏والأُذنَ‏}‏ تُصلم ‏{‏بالأُذنِ‏}‏، ‏{‏والسِّن‏}‏ تُقلع ‏{‏بالسن‏}‏، ‏{‏والجروح قصاص‏}‏؛ يقتص من الجارح بمثل ما فَعل، إلا ما يخاف منه كالمأمومة، والجائفة، وكسر الفخذ، فيعطي الدية، ‏{‏فمن تصدق به‏}‏ أي‏:‏ بالدم، بأن عَفى عن الجارح أو القاتل فلم يقتص، ‏{‏فهو كفّارة له‏}‏ أي للمقتول، يغفر الله ذنوبه ويعظم أجره، أو كفارة للقاتل أو الجارح، يعفو الله بذلك عن القاتل؛ لأن صاحب الحق قد عفا عنه، أو كفارة للعافي؛ لأنه مسامح في حقه، أو من تصدق بنفسه ومكنها من القصاص فهو كفارة له، اقتص منه أو عُفي عنه‏.‏

وفيه دليل على أن الحدود مكفرة لا زواجر، وزعم ابن العربي‏:‏ أن المقتول يُطالب يوم القيامة، ولو قتل في الدنيا قصاصًا؛ لأنه لم يتحصل للمقتول من قتل قاتله شيء، وأن القصاص إنما هو ردع، وأجيب بمنع أنه لم يتحصل له شيء، بل حصلت له الشهادة وتكفير لذنوبة، كما في الحديث‏:‏ «السيف محاء للخطايا» ولو كان القصاص للردع خاصة لم يشرع العفو، قاله ابن حجر، وفي حديث البخاري‏:‏ «من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، وإن ستره الله فهو في المشيئة»‏.‏

‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏}‏ من القصاص وغيره ‏{‏فأولئك هم الظالمون‏}‏؛ المتجاوزون حدود الله، وما كتب الله على بني إسرائيل هو أيضًا مكتوب علينا، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولا ناسخ هنا، بل قررته السنة والإجماع‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ القصاص مشروع وهو من حقوق النفس؛ لأنها تطلبه تشفيًا وغيظًا، والعفو مطلوب ومرغب فيه، وهو من حقوق الله، هو طالبه منك، وأين ما تطلبه لنفسك مما هو طالبه منك‏؟‏ ومن شأن الصوفية الأخذ بالعزائم، واتباع أحسن المذاهب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 18‏]‏، ومن شأنهم أيضًا‏:‏ الغيبة عن حظوظ النفس، ولذلك قالوا‏:‏ ‏(‏الصوفي دمه هدر، وماله مباح‏)‏، وقالو أيضًا‏:‏ ‏(‏الصوفي كالأرض، يُحرح عليها كل قبيح، وهي تُنبت كلَّ مليح‏)‏، ومن أوكد الأمور عندهم عدم الانتصار لأنفسهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏

‏{‏وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قفينا‏}‏‏:‏ اتبعنا، مشتق من القفا؛ كأن مجيء عيسى كان في قفا مجيء النبيين وخلفهم، وحذف المفعول الأول، أي‏:‏ أتبعناهم، و‏{‏بعيسى‏}‏ مفعول ثاني، وجملة‏:‏ ‏{‏فيه هدى ونور‏}‏‏:‏ حال من ‏{‏الإنجيل‏}‏، و‏{‏مصدقًا‏}‏‏:‏ عطف عليه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وأتبعنا النبيين المتقدمين وجئنا على إثرهم ‏{‏بعيسى ابن مريم مصدقًا لما بين يديه‏}‏ أي‏:‏ ما تقدم أمامه ‏{‏من التوراة‏}‏ وتصديقه للتوراة؛ إما لكونه مذكورًا فيها ثم ظهر، أو بموافقة ما جاء به من التوحيد والأحكامِ لما فيها، أو لكونه صدَّق بها وعمل بما فيها‏.‏

‏{‏وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور‏}‏؛ فالهدى لإصلاح الظواهر بالشرائع، والنور لإصلاح الضمائر بالعقائد الصحيحة والحقائق الربانية، ‏{‏ومصدقًا لما بين يديه من التوراة‏}‏ بتقرير أحكامها، والشهادة على صحتها، ‏{‏وهدى وموعظة للمتقين‏}‏ أي‏:‏ وإرشادًا وتذكيرًا للمتقين؛ لأنهم هم الذين ينفع فيهم الموعظة والتذكير، دون المنهمكين في الغفلة، قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يسمعون‏.‏

ثم أمر الله أهل الإنجيل بالحكم بما فيه، فقال‏:‏ ‏{‏وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه‏}‏ من الأحكام، وقرأ حمزة‏:‏ ‏{‏وليحكم‏}‏ بلام الجر؛ أي‏:‏ وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل بما فيه، ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏؛ الخارجون عن طاعة الحق‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ والآية تدل على أن الإنجيل مشتملة على الأحكام، وأن اليهودية منسوخة ببعث عيسى عليه السلام، وأنه كان مستقلاً بالشرع، وحمَلها على‏:‏ وليحكموا بما أنزل الله، فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد جمع الله في هذه الأمة المحمدية ما افترق في غيرها في الأزمنة المتقدمة، فعلماؤها وأولياؤها كالأنبياء والرّسل، كلما مات عالم أو ولي قفاه الله بآخر، أما العلماء فأمرهم متفق وحالهم متقارب، فمدار أمرهم على تحصيل العلوم الرسمية والأعمال الظاهرية، وأما الأولياء رضي الله عنهم، فأحوالهم مختلفة، فمنهم من يكون على قدم نوح عليه السلام في القوة والشدة، ومنهم من يكون على قدم إبراهيم عليه السلام في الحنانة والشفقة‏.‏ ومنهم من يكون على قدم موسى عليه السلام في القوة أيضًا، ومنهم من يكون على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع إلى الله تعالى، ومنهم من يكون على قدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعظمهم لجمعه ما افترق في غيره، وكل واحد يؤتيه الله نورًا في الباطن يجذب به القلوب إلى الحضرة، وهدى في الظاهر يصلح به الظواهر في الشريعة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مهيمنًا‏}‏ أي‏:‏ شاهدًا، والشرعة والمنهاج‏:‏ قال ابن عطية‏:‏ معناهما واحد، وقال ابن عباس‏:‏ أي سبيلاً وسنة‏.‏ قلت‏:‏ والظاهر‏:‏ أن الشرعة يراد بها الأحكام الظاهرة، وهي التي تًصلح الظواهر، والمنهاج يراد به علوم الطريقة الباطنية، وهي التي تصلح الضمائر، وهو مضمن علم التصوف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك‏}‏ يا محمد ‏{‏الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن ملتبسًا ‏{‏بالحق مصدقًا لما بين يديه‏}‏ من جنس الكتاب، أي‏:‏ مصدقًا لما تقدمه من الكتب، بموافقته لهم في الأخبار والتوحيد، ‏{‏ومهيمنًا عليه‏}‏ أي‏:‏ شاهدًا عليه بالصحة، أو راقبًا عليه من التغيير في المعنى، ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ إليك ‏{‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏ منحرفًا عما جاءك من الحق إلى ما يشتهونه، لكل نبي ‏{‏جعلنا منكم شرعة‏}‏ ظاهرة يصلح بها الظواهر، ‏{‏ومنهاجًا‏}‏ أي‏:‏ طريقًا واضحًا يسلك منها إلى معرفة الحق، وهو ما يتعلق بإصلاح السرائر، واستُدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة‏.‏

‏{‏ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏}‏ أي‏:‏ جماعة واحدة متفقة على دين واحد، ‏{‏ولكن‏}‏ عدد الشرائع وخالف بينها ‏{‏ليبلوكم‏}‏ أي‏:‏ يختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، أيكم ينقاد، ويخضع للحق أينما ظهر، فإن اختلاف الأحوال وتنقلات الأطوار فيه يظهر الإقرار والإنكار، ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ أي‏:‏ بادروا إلى الانقياد إلى الطاعات واتباع الحق والخضوع لمن جاء به أينما ظهر، انتهازًا للفرصة، وحيَازة لفضل السبق والتقدم، ‏{‏إلى الله مرجعكم جميعًا‏}‏ فيظهر السابقون من المقصرين، ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي‏:‏ يخبركم ‏{‏بما كنتم فيه تختلفون‏}‏ من أمر الدين بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل، والمبادر والمقصر، واختلاف الشرائع إنما هي باعتبار الفروع، وأما الأصول كالتوحيد والإيمان بالرّسل، والبعث، وغير ذلك من القواعد الأصولية، فهي متفقةح قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «نحنُ أبناء علات، أمهاتُنا شَتَّى وأبونا واحد» يعني التوحيد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام جمع الله له ما افترق في غيره، فذاته الشريفة جمعت المحاسن كلها ظاهرة وباطنة، وكتابُه جمع ما في الكتب كلها فهو شاهد عليها، وشريعته جمعت الشرائع كلها، ولذلك كان الولي المحمدي هو أعظم الأولياء‏.‏

واعلم أن الحق جل جلاله جعل لكل عصر تربية مخصوصة بحسب ما يناسب ذلك، العصر، كما جعل لكل أمة شرعة ومنهاجًا بحسب الحكمة، فمن سلك بالمريدين تربية واحدة، وأراد أن يسيرهم على تربية المتقدمين، فهو جاهل بسلوك الطريق، فلو كان السلوك على نمط واحد ما جدد الله الرسل بتجديد الأزمنة والأعصار، فكل نبي وولي يبعثه الله تعالى بخرق عوائد زمانه، وهي مختلفة جدَا، فتارة يغلب على الناس التحاسد والتباغض، فيبعث بإصلاح ذات البين والتآلف والتودد، وتارة يغلب حب الرياسة والجاه فيربى بالخمول وإسقاط المنزلة، وتارة يغلب حب الدنيا وجمعها فيربى بالزهد فيها والتجريد والانقطاع إلى الله‏.‏ وهكذا فليقس ما لم يقل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وأن احكم‏}‏‏:‏ عطف على الكتاب، أي‏:‏ وأنزلنا إليكم الكتاب والحكم بينهم بما أنزل الله، أو على الحق، أي‏:‏ أنزلناه بالحق وبالحكم بما أنزل الله، و‏{‏أن يفتنوك‏}‏‏:‏ بدل اشتمال من الضمير، أي‏:‏ احذر فتنتهم، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لقوم‏}‏‏:‏ للبيان‏:‏ أي‏:‏ هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لرسوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أمرناك ‏{‏أن اُحكم بينهم‏}‏ أي‏:‏ بين اليهود ‏{‏بما أنزل الله‏}‏، قيل هو ناسخ للتخيير المتقدم، وقيل‏:‏ لا، والمعنى أنت مخير، فإن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله ‏{‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏ الباطلة، التي أرادوا أن يفتنوك بها، ‏{‏واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك‏}‏، فيصرفوك عن الحكم به‏.‏

رُوِي أن أحبار اليهود قالوا‏:‏ اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا‏:‏ يا محمد، قد عرفت أنَّا أحبار اليهود، وأنّا إن اتبعناك اتبعتك اليهود كلهم، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردَّهم، فنزلت الآية‏.‏

قال تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ عن الإيمان، بل وأعرضوا عن اتباعك، ‏{‏فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم‏}‏ في الدنيا، ويدخر جُلَّها للآخرة، وقد أنجز الله وعده، فأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبا نساءهم وذراريهم، وباعهم في الأسواق، وفتح خيبر، وضرب عليه الجزية، ‏{‏وإنَّ كثيرًا من الناس لفاسقون‏}‏؛ خارجون عن طاعة الله ورسوله، ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ أي‏:‏ يطلبون منك حكم الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، ‏{‏ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أحسن حكمًا من الله تعالى عند أهل الإيقان؛ لأنهم هم الذين يتدبرون الأمر، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله عز وجل‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كثرت عليك الخصوم الوهمية أو الواردات القلبية، والتبس عليك أمرهم، ولم تدر أيهما تتبع‏؟‏ فاحكم بينهم بالكتاب والسنة، فمن وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإن من أمَّر الكتاب والسُّنة على نفسه نطق بالحكمة، وإن وافق أكثرُ من واحد الكتاب أو السنة، فانظر أثقلهم على النفس، فإنه لا يثقل عليها إلا ما هو حق، ولا تتبع أهواء النفوس والخواطر، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل على قلبك من العلوم والأسرار، فإن متابعة الهوى يُعمي القلب عن مطالعة الأسرار، إلا إن وافق السُّنة‏.‏

قيل لعمرَ بن عبد العزيز‏:‏ ما ألذُ الأشياءِ عندك‏؟‏ قال‏:‏ حق وافق هواي‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم «لاَ يُؤمِنُ أُحَدُكُم حَتَّى يكُون هواه تابعًا لما جئتُ به»، وفي الحِكَم‏:‏ «يُخاف عليك أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخاف عليك من غَلِبَةِ الهوى عليك»‏.‏

فمن تولى عن هذا المنهاج الواضح، وجعل يتبع الهوى ويسلك طريق الرخص، فليعلم أن الله أراد أن يعاقبه ببعض سواء أدبه، حتى يخرج عن منهاج السالكين، والعياذ بالله، أو يؤدبه في الدنيا إن كان متوجهًا إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏يقول الذين آمنوا‏}‏ قرىء بغير واو؛ استئنافًا، وكأنه جواب عن سؤال، أي‏:‏ ماذا يقول المؤمنون حينئٍذ‏؟‏ فقال‏:‏ يقول‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وقرىء بالواو والرفع؛ عطف جملة على جملة، وقرىء بالواو والنصب؛ عطف على ‏{‏فيصبحوا‏}‏ أو ‏{‏يأتي‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ تنتصرون بهم، أو تعاشرونهم معاشرة الأحباب، أو تتوددون إليهم، وأما معاملتهم من غير مودة فلا بأس، ثم علل النهي عن موالاتهم فقال‏:‏ هم ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي‏:‏ لأنهم متفقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضًا لا تحادهم في الدين، وإجماعهم على مضادتكم، ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ أي‏:‏ من والاهم منكم فإنه من جملتهم‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وهذا تشديد في وجوب مجانبتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم «المؤمنُ والمشركُ لا تَتَراءى نَارهَمَا» أو لأن الموالين لهم كانوا منافقين‏.‏ ه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ من تولهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العَضد ونحوه، دون معتقد ولا إخلال بإيمان، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه‏.‏ ه‏.‏ وسُئل ابن سيرين عن رجل أراد بيع داره للنصارى يتخذونها كنيسة، فتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏‏.‏ ه‏.‏ وفي أبي الحسن الصغير‏:‏ أن بيع غير السلاح للعدو الكافر فسق، وبيع السلاح له كفر‏.‏

قلت‏:‏ ولعله إذا قصد تقويتهم على حرب المسلمين، وأما الفداء بالسلاح إذا لم يقبلوا غيره، فيجوز في القليل دون الكثير، وأجازه سحنون مطلقاً، إذا لم يرج فداؤه بالمال‏.‏ انظر الحاشية‏.‏

‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي‏:‏ ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار‏.‏

‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض‏}‏ وهم النافقون، ‏{‏يسارعون فيهم‏}‏ أي‏:‏ في موالاتهم ومناصرتهم، ‏{‏يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏ أي‏:‏ يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من الدوائر، بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار‏.‏ رُوِي أن عبادة بن الصامت قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن لي موالي من اليهود، كثير عددهم، وإني أبرأُ إلى الله ورسوله من ولايتهم، فقال ابن أبي‏:‏ إني امرؤ أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي، فنزلت الآية، قال تعالى ردًا عليه‏:‏ ‏{‏فعسى الله أن يأتي بالفتح‏}‏ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين ونصرهم، ‏{‏أو أمر من عنده‏}‏، يقطع شأفة اليهود، من القتل والإجلاء، ‏{‏فيُصبحوا‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء المنافقون، ‏{‏على ما أسروا في أنفسهم‏}‏ من الكفر والنفاق، ومن مظاهرة اليهود ‏{‏نادمين‏}‏‏.‏

‏{‏ويقول الذين آمنوا‏}‏ حينئٍذ أي‏:‏ حين فتح الله على رسوله وفضح سريرة المنافقين‏:‏ ‏{‏أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم‏}‏، يقولهُ المؤمنون بعضهم لبعض، تعجبًا من حال المنافقين وتبجحًا بما منَّ الله عليهم من الإخلاص، أو يقولونه لليهود؛ لأن المنافقين حلفوا لهم بالمناصرة، كما حكى تعالى عنهم

‏{‏وَإٍن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحَشر‏:‏ 11‏]‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين‏}‏‏.‏

يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، أو من قول الله تعالى، شهادة عليهم بحبوط أعمالهم، وفيه معنى التعجب، كأنه قال‏:‏ ما أحباط أعمالهم وما أخسرهم‏!‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم مرارًا النهيُ عن موالاة الغافلين، وخصوصًا الفجار منهم، ويلتحق بهم القراء المداهنون؛ وهم فسقة الطلبة؛ الذين هم على سبيل الشيطان، والفقراء الجاهلون؛ وهم من لا شيخ لهم يصلح للتربية، والعلماء المتجمدون، فصحبة هؤلاء تقدح في صفاء البصيرة، وتخمد نور السريرة، وكل من تراه من الفقراء يميل إلى هؤلاء خشية الدوائر، ففيه نزعة من المنافقين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من‏}‏‏:‏ شرطية، و‏{‏يرتد‏}‏‏:‏ فعل الشرط، فمن قرأه بالتفكيك فعلى الأصل، ومن قرأه بالإدغام ففتحه تخفيفًا‏.‏ وجملة ‏{‏فسوف يأتي‏}‏‏:‏ جواب، والعائد من الجملة محذوف، أي‏:‏ فسوف يأتي الله بقوم مكانهم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ و‏{‏أذلة‏}‏‏:‏ نعت ثاني لقوم، جمع ذليل، وأتى به مع علي؛ لتضمنه معنى العطف والحنو، و‏{‏لا يخافون‏}‏‏:‏ عطف على يجاهدون، وجملة‏:‏ ‏{‏وهم راكعون‏}‏‏:‏ حال إن نزلت في عليّ رضي الله عنه، أو عطف إن كانت عامة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه‏}‏ ويرجع عنه بعد الدخول فيه، فسيأتي الله بقوم مكانهم؛ ‏{‏يحبهم‏}‏ فيثبتهم على دينهم، ‏{‏ويحبونه‏}‏ فيجاهدون من رجع عن دينه، وهم أهل اليمن، والأظهر أنهم أبو بكر الصدّيق وأصحابه، الذين قاتلوا أهل الردة، ويدل على ذلك الأوصاف التي وصفهم الله بها من الجد في قتالهم، والعزم عليه، التي كانت من أوصاف الصدّيق، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‏}‏ فقد كان أبو بكر ضعيفًا في نفسه، قويًا في ذات الله، لم يخف في الله لومة لائم، حين لامه بعض الصحابة في قتالهم‏.‏

وفي الآية إخبار بالغيب قبل وقوعه، فقد ارتد من العرب في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق‏:‏ بنو مدلج، وكان رئيسهم الأسود العنسي، تنبأ باليمن، واستولى على بلادهم، ثم قتله فيروز الديلمي، ليلة قٌبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من غدها، وأخبر بموته الرسولُ عليه الصلاة والسلام فسُر المسلمون‏.‏ وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب، تنبأ باليمامة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من مسيلمةَ رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد‏:‏ فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجابه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من مُحمَّدٍ رَسُول اللهِ إلى مسيلمةَ الكَذَّابِ، أمَّا بَعدُ‏:‏ فَإنَّ الأرض للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِن عِبَادِهِ والعَاقِبَة للمتّقِين»، فحاربه أبو بكر بجند المسلمين، وقتله وحشي قاتلُ حمزة، وبنو أسد قوم طليحة، تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله، فهرب إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه‏.‏

وفي عهد أبي بكر، بنو فزارة قومِ عُيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن مسلمة، وبنو سليم، وبنو يربوع قوم مالك بن نَويرة، وبعض تميم، قوم سَجَاح المتنبئة زوجة مسيلمة، وكندة قوم الإشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين، فكفى الله أمرهم على يديه‏.‏ وفي مدة عمر رضي الله عنه غسان، قوم جبلة بن الأيهم، الذي ارتد من اللطمة‏.‏ فهؤلاء جملة مَن ارتد من العرب‏.‏ فأتى الله بقوم أحبهم وأحبوه، فجاهدوهم حتى ردوهم إلى دينهم‏.‏

ومحبة الله للعبد‏:‏ توفيقه وعصمته وتقريبه من حضرته‏.‏ ومحبة العبد لله‏:‏ طاعته والتحرز من معصيته، وسيأتي في الإشارة الكلام عليها‏.‏

ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏أذلة على المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ عاطفين عليهم خافضين جناحهم لهم، ‏{‏أعزة على الكافرين‏}‏ شداد متغالبين عليهم، وهذا كقوله فيهم‏:‏ ‏{‏أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفَتْح‏:‏ 29‏]‏، ‏{‏يجاهدون في سبيل الله‏}‏ من ارتد عن دين الله، ‏{‏ولا يخافون لومة لائم‏}‏ لصلابتهم في دين الله، وفيه إشارة إلى خطأ من لام الصِّدِّيق في قتال أهل الردة، وقالوا كيف تقاتل قومًا يقولون‏:‏ لا إله إلا الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏والله لنقاتلن مَن فَّرق بين الصلاة والزكاة‏)‏ فلم يلتفت إلى لومهم‏.‏ ‏{‏ذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء‏}‏، الإشارة إلى ما خصهم الله به، من المحبة والأخلاق الكريمة، ‏{‏والله واسع‏}‏ الفضل والعطاء ‏{‏عليم‏}‏ بمن هو أهله‏.‏

ولمّا نهى عن موالاة الكفار ذكر من هو أهل للموالاة فقال‏:‏ ‏{‏إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا‏}‏؛ لم يقل‏:‏ أولياؤكم بالجمع، تنبيهًا لى أن الولاية لله على الأصالة، ولرسوله وللمؤمنين على التبع، ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏}‏ أي‏:‏ خاضعون لله، ولعباده متواضعون، منقادون لأحكامه، أو يتصدقون في حال ركوعهم في الصلاة، حرصًا على الخير ومسارعة إليه، قيل‏:‏ نزلت في علي كرم الله وجهه؛ سأله سائل وهو راكع في الصلاة، فطَرح له خاتمه، وقيل‏:‏ عامة، وذكر الركوع بعد الصلاة؛ لأنه من أشرف أعمالها‏.‏

‏{‏ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا‏}‏، أي يتخذهم أولياء، ‏{‏فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏ أي‏:‏ فإنهم الغالبون، ووضع الظاهر موضع المضمر ليكون كالبرهان عليه، فكأنه قال‏:‏ ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، وتنويهًا بذكرهم وتعظيمًا لشأنهم، وتعريضًا بمن يوالي غير هؤلاء‏.‏ فإنه حزب الشيطان، وأصل الحزب‏:‏ القوم يجتمعون لأمر حَزَبَهُم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ محبة الحقّ تعالى لعبده سابقة على محبته له، كما أن توبته عليه سابقة لتوبته، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يحبهم ويحبونه‏}‏، ‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 118‏]‏، قال أبو يزيد رضي الله عنه‏:‏ غلطت في ابتداء أمري في أربعة أشياء‏:‏ توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه، فما انتهيت، رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته تقدمت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي من قبل طلبي له‏.‏ ه‏.‏

وفي الحكم‏:‏ «أنت الذاكر من قبل الذاكرين، وأنت البادىء بالإحسان من قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين»‏.‏

ومحبة الله لعبده‏:‏ حفظه ورعايته، وتقريبه واصطفاؤه لحضرته، وقال القطب بن مشيش رضي الله عنه‏:‏ المحبة أخذة من الله قلبَ من أحب، بما يكشف له من نور جماله، وقدس كمال جلاله، وشراب المحبة‏:‏ مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعت بالنعوت، والأفعال بالأفعال‏.‏

قلت‏:‏ ومعنى ذلك‏:‏ غيبة العبد في شهود الحق، وهو مقام الفناء، ثم قال رضي الله عنه‏:‏ والشراب أي‏:‏ الشرب سقي القلوب والأوصال والعروق من هذا الشراب، حتى يسكر، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب والتهذيب، أي يكون شرب الخمرة شيئًا فشيئًا، ووقتًا فوقتًا، حتى يتمكن من شهود المعاني بلا فترة، فذلك الرّي، وذلك بعد كمال التهذيب، فيسقى كل على قدره، فمنهم من يسقي بغير واسطة، والله سبحانه يتولى ذلك منه، ‏(‏قلت‏:‏ وهو نادر، والغالب عليه الانحراف‏)‏، ومنهم من يسقي من جهة الوسائط، كالملائكة والعلماء والأكابر من المقربين، ‏(‏قلت‏:‏ قوله‏:‏ كالملائكة‏.‏‏.‏‏.‏ تمثيل للوسائط، فالملائكة؛ للأنبياء، والعلماء بالله وأكابر المقربين لغيرهم‏)‏، ثم قال‏:‏ فمنهم من يسكر بشهود الكأس، ولو لم يذق بعدُ شيئًا، فما ظنك بعدُ بالذوق، وبعدُ بالشرب، وبعدُ بالري، وبعدُ بالسكر بالمشروب‏؟‏‏!‏ ثم الصحو بعد ذلك على مقادير شتى، كما أن السكر أيضًا كذلك‏.‏ انظر بقية كلامه مع شرحه في شرحنا لخمرية ابن الفارض‏.‏

وقال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه‏:‏ المحبة لها ثلاث مراتب‏:‏ بداية ووسط ونهاية؛ فبدايتها لأهل الخدمة، كالعباد والزهاد والصالحين والعلماء المجتهدين‏.‏ ووسطها لأهل الأحوال، الذين غلب عليهم الشوق حتى صدرت منهم شطحات ورقصات وأحوال غريبة ربما ينكرها أهل ظاهر الشريعة، فمنهم من يغلب عليه الجذب حتى يصطلم، ومنهم من يبقى معه شيء من الصحو، وهؤلاء تظهر عليهم كرامات وخوارق العادات، ونهايتها لأهل العرفان، أهل مقام الشهود والعيان، الذين شربوها من يد الوسائط وسكروا بها، وصحوا‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى‏.‏

وفي الورتجبي ما حاصله‏:‏ أن محبتهم بعد المشاهدة، وإلا لم تكن محبة حقيقة؛ لان محبة الآلاء والنعماء معلولة، ولا كذلك هذه، لأن من رآه عشقه، وكيف يرجع عنه من كان مسلوب القلب بعشقه لجماله‏؟‏ ولذلك لم يرتدوا عن دينهم الذي هو المحبة‏.‏ ه‏.‏

وللمحبة علامات وثمرات، ذكر بعضَها الحق تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏أذلة على المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ متواضعين عاطفين عليهم، ‏{‏أعزة على الكافرين‏}‏، أي‏:‏ القواطع، غالبين عليهم، ‏{‏يجاهدون في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ أنفسهم وأهواءهم، ‏{‏ولا يخافون لومة لائم‏}‏؛ إذ لا يراقبون سوى المحبوب، وليس للمحبة طريق إلا محض الفضل والكرم‏.‏ ‏{‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏}‏؛ لكن صحبة المحبوبين عند الله من أسبابها العادية، وهم أولياء الله الذين هم حزب الله، فولايتهم والقرب منهم من أسباب القرب والمحبة، ومن موجبات النظر والغلبة؛ ‏{‏ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏والكفار‏}‏‏:‏ من نَصَبَ عطف على الموصول الأول، ومن جَرَّ فعلى الموصول الثاني‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا‏}‏ من شدة كفرهم، وعلبة سفههم ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ كاليهود والنصارى، ‏{‏و‏}‏ لا تتخذوا أيضًا ‏{‏الكفار‏}‏ من المشركين ‏{‏أولياء‏}‏ وأصدقاء، أو‏:‏ لا تتخذوا من اتخذ دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب ومن المشركين أولياء، ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في موالاتهم ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏؛ فإن الإيمان يقتضي الوقوف عند الأمر والنهي‏.‏

وكيف توالون من يستهزىء بدينكم، ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا‏}‏، رُوِي أن نصرانيًا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول‏:‏ إشهد أن محمدًا رسول الله، قال‏:‏ أحرق الله الكاذب‏.‏ فدخل خادمه ذات ليلة بنار، وأهله نيام، فطارت شرارة في البيت، فأحرقته وأهله‏)‏‏.‏ وفي الآية دلالة على مشروعية الأذان من القرآن‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏؛ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهُزء به، والعقل يقتضي المنع من الجهل والإقرارَ بالحق وتعظيمه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد حذّر الحقّ جلّ جلاله من صحبة الأشرار، ويفهم منه الترغيب في موالاة الأخيار، وهم الصوفية الأبرار، ففي صحبتهم سر كبير وخير كثير، ولابن عباد رضي الله عنه في نظم الحكم‏:‏

إنَّ التَّواخي فضلُه لا يُنكَر *** وإن خلا مِن شرطِهِ لا يُشكَر

والشرطُ فِيه أن تُوَاخِي العَارفا *** عن الحظوظ واللحُوظ صَارِفَا

مقَالُه وَحَالهُ سِيّان *** مَا دَعَونَا إلاَّ إلىَ الرحمان

أنوارُه دائِمَة السِّرَايَة *** فِيكَ وقد حَفَّت به الرِّعَايه

وفي الحكم‏:‏ «لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ نقم بفتح القاف بالكسر، بمعنى‏:‏ عاب وأنكر، وانتقم إذا كافأه على إنكاره، ويقال‏:‏ نقم بالكسر ينقم بالفتح وقرىء به في الشاذ، و‏{‏أن أكثركم‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏آمنا‏}‏ أي‏:‏ ما تعيبون منا إلا أنا مؤمنون وأنتم فاسقون‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا‏}‏ أي‏:‏ ما تنكرون علينا وتعيبونه منا ‏{‏إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل‏}‏ من الكتب كلها، ‏{‏وأن أكثركم‏}‏ خارجون عن هذا الإيمان، وهذا أمر لا ينكر ولا يعاب، ونظير هذا في الاستثناء العجيب قوله النابغة‏:‏

لا عَيبَ فِيهِم غَيرَ أنَّ سُيُوفَهُم *** بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِرَاعِ الكتَائِبِ

الإشارة‏:‏ أهل الخصوصية يقرون أحوال أهل الشريعة كلها، ولا ينكرون على أهلها شيئًا من أمورهم، وأهل الشريعة ينكرون كثيرًا من أحوال أهل الخصوصية ويعيبُونها عليهم، وهي من أفضل القربات إلى الله عندهم، فيقولون لهم‏:‏ هل تنقمون منا إلا أن آمنا بشريعتكم، وأنتم خارجون عن حقيقتنا ورؤية خصوصيتنا، لكن أهل الشريعة معذورون في إنكارهم، إذ ذاك مبلغهم من العلم، فإن كان إنكارهم غيره على ما فهموا من الدين فعذرهم صحيح، وإن كان حسدًا أو حمية فهم ممقوتون عند الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ولما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود، فقالوا يا محمد‏:‏ أخبرنا بمن تؤمن من الرسل، فتلا عليهم‏:‏ ‏{‏قُلْ ءَامَنَّا بِاللهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 84‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أوُتِىَ مُوسَى وَعِيسَى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 84‏]‏ فلما سمعوا ذكر عيسى قالوا‏:‏ ما رأينا شرًا من دينك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ مشاركة اسم التفضيل هنا باعتبار زعمهم واعتقادهم، وإلا فلا مشاركة بين المسلمين وبينهم في الشر والضلال، و‏{‏مثوبة‏}‏‏:‏ تمييز عن شر، وضع موضع الجزاء، وأصل المثوبة‏:‏ في الخير، والعقوبة‏:‏ في الشر، فوضع هنا المثوبة موضع العقوبة تهكمًا بهم، كقوله‏:‏

تحَيَّةُ بَينِهِم، ضَربٌ وَجِيعٌ *** و‏{‏من لعنة الله‏}‏‏:‏ إما خبر، أي‏:‏ هو مَن لعنه الله، أو بدل من شر، ولا بد من حذف مضاف، إما من الأول أو الثاني، أي‏:‏ بشر من أهل ذلك الدين من لعنه الله، أو دين من لعنه الله‏.‏

ومن قرأ‏:‏ ‏{‏عَبَدَ‏}‏ بفتح الباء، ففعل ماض، صلة لموصول محذوف، أي‏:‏ ومَن عبد، و‏{‏الطاغوت‏}‏‏:‏ مفعول به، ومن قرأ بضم الباء، فاسم للمبالغة، كيقظ، أي‏:‏ كثير اليقظة، وهو عطف على القردة، والطاغوت مضاف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏هل‏}‏ أخبركم بأقبح من ذلك الدين الذي قلتم ما رأيتم شرًا منه، هو دين ‏{‏من لعنه الله‏}‏، أو نفس من لعنه الله، أي‏:‏ أبعده من رحمته ‏{‏وغضب عليه‏}‏ بكفره وعصيانه، وهم اليهود، ‏{‏وجعل منهم القردة والخنازير‏}‏ أي‏:‏ مسخ بعضهم قردة وخنازير، وهم أصحاب السبت، مسخ شبابهم قردة، وشيوخهم خنازير، ‏{‏و‏}‏ جعل منهم أيضًا من ‏{‏عبد الطاغوت‏}‏، وهم عباد العجل، أو الكهنة، أو كل من أطاعوه في معصية الله، ‏{‏أولئك شر مكانًا‏}‏ أي‏:‏ أقبح مكانًا، أي‏:‏ أقبح مرتبة وأخس حالاً، جعل مكانَهم شرًا، ليكون أبلغ في الدلالة على شريتهم، ‏{‏و‏}‏ هم أيضًا ‏{‏أضل عن سواء السبيل‏}‏ أي‏:‏ عن وسط الطريق، بل حادوا عنه إلى طرق تفريط أو إفراط، حيث تركوا طريق الإسلام، الذي هو الصراط المستقيم‏.‏

الإشارة‏:‏ من كان متلطخًا بالمعاصي والذنوب، وباطنه محشو بالمساوىء والعيوب؛ كالحسد والجاه وحب الدنيا وسائر أمراض القلوب، ثم جعل يطعن في طريق الخصوص، يقال له‏:‏ أنبئك بشر من ذلك، هو من أبعده الله بسبب المعاصي، والذنوب، وغضب عليه بسبب أمراض القلوب، ومسخ قلبه عن مطالعة أنوار الغيوب، فهذا أقبح مكانًا وأضل سبيلاً، فكل من أُولع بالطعن على الذاكرين، يمسخ قلبُه بالغفلة والقسوة، حتى يفضي إلى سوء الخاتمة‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة‏:‏ ‏{‏وقد دخلوا‏}‏، وجملة‏:‏ ‏{‏وهم قد خرجوا‏}‏، حالان من فاعل ‏{‏قالوا‏}‏، ودخلت ‏{‏قد‏}‏ على دخلوا وخرجوا؛ تقريبًا للماضي من الحال، ليصح وقوع حالاً؛ أي‏:‏ ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام، وأفادت أيضًا لما فيها من التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في ذكر مساوىء اليهود‏:‏ ‏{‏وإذا جاؤوكم‏}‏ ودخلوا عليكم، أظهروا الوفاق لكم، و‏{‏قالوا آمنا‏}‏ بدينكم ‏{‏و‏}‏ هم ‏{‏قد دخلوا‏}‏ عليكم ملتبسين ‏{‏بالفكر‏}‏ في قلوبهم، ‏{‏وهم قد خرجوا‏}‏ أيضًا ‏{‏به‏}‏، فلم ينفع فيهم وعظ ولا تذكير، بل كتموا النفاق وأظهروا الوفاق، ‏{‏والله أعلم بما كانوا يكتمون‏}‏؛ فيفضحهم على رؤوس الأشهاد‏.‏

الإشارة‏:‏ من سبق له الطرد والإبعاد لا تنفعه خلطة أهل المحبة والوداد، بل يخرج من عندهم كما دخل عليهم، لا ينفع فيه وعظ ولا تذكير، ولا ينجح فيه زاجر ولا نذير، وأما من سبقت له العناية فلا يخرج من عندهم إلا مصحوبًا بالهداية والرعاية، إذا كان في أسفل سافلين في أعلى عليين؛ لأنهم قوم لا يشقى جليسهم والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏‏:‏ أذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وترى‏}‏ يا محمد، أو يا من تصح منه الرؤية ‏{‏كثيرًا‏}‏ من اليهود ‏{‏يسارعون في الإثم‏}‏ أي‏:‏ في الذنوب والمعاصي المتعلقة بهم في أنفسهم ‏{‏والعدوان‏}‏ المتعلقة بغيرهم، كالتعدي على أموال الغير وأعراضهم وأبدانهم، ‏{‏وأكلهم السحت‏}‏‏:‏ الحرام؛ كالرشا والربا وغير ذلك، ‏{‏لبئس ما كانوا يعملون‏}‏ أي‏:‏ قبح عملهم بذلك، وتناهى في القبح‏.‏

‏{‏لولا ينهاهم‏}‏ أي‏:‏ هلا ينهاهم ‏{‏الربانيون‏}‏ أي‏:‏ عُبّادُهم ورهبانهم، ‏{‏والأحبار‏}‏ أي‏:‏ علماؤهم وأساقفتهم، ‏{‏عن قولهم الإثم‏}‏ أي‏:‏ الكذب، ‏{‏وأكلهم السحت‏}‏‏:‏ الحرام، ‏{‏لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏ من السكوت عنهم، وعدم الإنكار عليهم، عبّر أولاً بيعلمون وثانيًا بيصنعون؛ لأن الصنع أبلغ، ولأن الصنع عمل بعد تدريب وتدقيق وتحري أجادته وجودته، بخلاف العمل، ولا شك أن ترك التغيير والسكوت على المعاصي من العلماء وأولى الأمر أقبح وأشنع من ومواقعة المعاصي، فكان جديرًا بأبلغ الذم، وأيضًا‏:‏ ترك التغيير لا يخلوا من تصنع، فناسب التعبير بيصنعون، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِن رَجُل يُجَاورُ قَومًا فَيَعمَلُ بالمَعَاصِي بَين أظْهُرِهم إلاَّ أوشَكَ اللهُ تَعَالَى أن يَعُمَّهُمُ مِنه بِعِقَاب» وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفَال‏:‏ 25‏]‏، فالوبال الذي يترتب على ترك الحسبة أعظم من الوبال الذي يترتب على المعصية، فكان التوبيخ على ترك الحسبة أعظم‏.‏

ثم نعى عليهم مقالاتهم الشنيعة، التي هي من جملة قولهم الإثم، فقال‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة‏}‏ أي‏:‏ مقبوضة عن بسط الرزق‏.‏ رُوِي أن اليهود أصابتهم سنة جدبة بشؤم تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه المقالة الشنيعة، والذي قالها فِنحاص، ونسبت إلى جملتهم؛ لأنهم رضوا بقوله، فعل اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود، ومنه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ثم رد عليهم فقال‏:‏ ‏{‏غُلّت أيديهم‏}‏، يحتمل أن يكون دعاءً أو خبرًا، ويحتمل أن يكون في الدنيا بالأسر والقبض، أو في الآخرة بجعل الأغلال فيها إلى عنقهم في جهنم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏، أي‏:‏ نعمه مبسوطة على عباده، سحاء عليهم، الليل والنهار، وإنما ثنيت اليدان عنها، وأفردت في قول اليهود؛ ليكون أبلغ في الرد عليهم، ومبالغة في وصفه تعالى بالجود والكرم، كما تقول‏:‏ فلان يعطي بكلتا يديه؛ إذا كان عظيم السخاء، أو كناية عن نعم الدنيا والآخرة، أو عن ما يعطيه استدارجًا وما يعطيه للإكرام‏.‏ ثم أكده بقوله‏:‏ ‏{‏يُنفق كيف يشاء‏}‏ أي‏:‏ هو مختار في إنفاقه، يوسع تارة ويضيق تارة أخرى، على حسب مشيئته ومقتضى حكمته‏.‏

ولمّا عميت بصيرتهم بالكفر، وقست قلوبهم بالذنوب، كانوا كلما ازدادوا تذكيرًا بالقرآن، زادوا في العتو والطغيان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا‏}‏؛ إذ هو متعصبون بالكفر والطغيان، ويزدادون طغيانًا وكفرًا بما يسمعون من القرآن، كما يزداد المريض مرضًا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء‏.‏

ومن مساوئهم أيضًا‏:‏ تفريق قلوبهم بالعداوة والشحناء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‏}‏؛ فلا تتوافق قلوبهم ولا تجتمع آراؤهم؛ ‏{‏كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله‏}‏ أي‏:‏ كلما أرادوا حرب الرسول عليه الصلاة والسلام وإثارة شر عليه، ردهم الله، وأبطل كيدهم، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم، أو‏:‏ كلما أرادوا حرب عدو لهم هزمهم الله، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمون‏.‏ فكان شأنهم الفساد، ولذلك قال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏ويسعون في الأرض فسادًا‏}‏ أي‏:‏ الفساد بإثارة الحروب والفتن، وهتك المحارم، واجتهادهم في الحيل والخدع للمسلمين، ‏{‏والله لا يحب المفسدين‏}‏ أي‏:‏ لا يرضى فعلهم فلا يجازيهم إلا شرًّا وعقوبة‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ في الآية تحذير الربانيين العارفين بالله وبحقوق الله، والأحبار العلماء بالله وبعذاب الله لمن عصاه، وبثواب الله لمن أطاعه؛ لئلا يسكنوا عن الزجر للمبطلين والمغالطين، المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس، وبيّن تعالى أن من داهن في دينه عذب وإن كان ربانيًا‏.‏ ه‏.‏ وفي بعض الأثر‏:‏ «إذا رأى العالمُ المنكَر وسكت، فعليه لعنة الله»‏.‏ والذي يظهر أن نهي الربانيين يكون بالهمة والحال، كقضية معروف الكرخي وغيره ونهي الأحبار يكون بالمقال، وقد تقدم هذا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل الكتاب‏}‏؛ اليهود والنصارى، ‏{‏آمنوا‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ‏{‏واتقوا‏}‏ ما ذكرنا من معاصيهم ومساويهم، ‏{‏لكفّرنا عنهم سيئاتهم‏}‏ المتقدمة، ولم نؤاخذهم بها، ‏{‏ولأدخلناهم جنات النعيم‏}‏ مع المؤمنين، وفيه تنبيه على أن الإسلام يجُب ما قبله ولو عظم، وأن الكتابي لا يدخل الجنة إلا أن يسلم‏.‏

‏{‏ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل‏}‏ بالإيمان بما فيهما، وإذاعة علمهما، والقيام بأحكامهما، من غير تفريق بينهما، وآمنوا بما ‏{‏أُنزل إليهم من ربهم‏}‏، يعني بسائر الكتب المنزلة، ومن جملتها القرآن العظيم، فإنهم لما كلفوا بالإيمان بها صارت كأنها منزلة عليهم، فلو فعلوا ذلك ‏{‏لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ أي‏:‏ لوسعنا عليهم أرزاقهم، وبسطنا عليهم النعم؛ بأن يفيض عليهم بركاتٍ من السماء والأرض، أو‏:‏ لأكلوا من فوقهم بكثرة ثمرة الأشجار، ومن تحت أرجلهم بكثرة الزروع، أو من فوقهم ما يجنون من ثمار أشجارهم، ومن تحت أرجلهم ما يتساقط منها، والمراد‏:‏ بيان علة قبض الرزق عنهم، وأن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم، لا لقصور القدرة عن ذلك‏.‏

ولو أنهم أقاموا ما ذكرنا لوسعنا عليهم، ولحصل لهم خير الدارين، ‏{‏منهم أمة مقتصدة‏}‏ أي‏:‏ جماعة عادلة غير غالية ولا مقصرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وكثير منهم ساء ما يعملون‏}‏ أي‏:‏ قبح عملهم، وفيه معنى التعجب، أي‏:‏ ما أسوأ عملهم‏!‏، وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه، والإفراط في العداوة‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ قال في الحاشية‏:‏ وفي الآية شاهد لما ورد من افتراق أهل الكتابين على فرق، كما أن شاهد افتراق هذه الأمة آية‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 181‏]‏، وهذه هي الناجية من هذه الأمة‏.‏ ه‏.‏ يعني التي تهدي بالحق إلى الحق، وتعدل به في جميع الأمور‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من حقّق الإيمان الكامل والتقوى الكاملة، وسع الله عليه من أرزاق العلوم، وفتحت له مخازن الفهوم، ودخل جنة المعارف، لم يشتق إلى جنة الزخارف، وقال الورتجبي‏:‏ لو كانوا على محل التحقيق في المعرفة لأكلوا أرزاق الله بالله من خزائن غيبه، كأصحابه المن والسلوى والمائدة من السماء، ويفتح لهم كنوز الأرض وهم على ذلك، بإسقاط رؤية الوسائط‏.‏ ه‏.‏

وقال القشيري‏:‏ لو سلكوا سبيل الطاعات لوسعنا عليهم أسباب المعيشة، وسهلنا لهم الحال، إن ضربوا يُمنة، لا يلقون غير اليُمن، وإن ضرَبوا يُسرةَ، لا يجدون إلا اليسر‏.‏ ه‏.‏